من العرش إلى العمى: الحكاية التي تلخّص الإنسان
قراءة فلسفية ونفسية عميقة لأسطورة أوديب، الذي سعى للهرب من قدره فانتهى في قلبه. رحلة من الجهل إلى الإدراك، ومن الملك إلى الأعمى، تكشف مأساة الإنسان حين يرى الحقيقة متأخرًا.

في زاوية معتمة من الميثولوجيا اليونانية، وُلدت واحدة من أكثر الحكايات قسوة وعمقًا: أسطورة أوديب. رجلٌ يسير نحو مصيره دون أن يعلم، يرتكب أعظم الجرائم بنية أن يتفاداها، ويتحوّل من ملكٍ مهاب إلى أعمى يقود نفسه نحو النفي. لكن هذه ليست مجرد مأساة قدَر، بل رحلة عن الإدراك، عن العمى الذي يسبق البصيرة، عن الإنسان حين يكتشف نفسه بعد فوات الأوان. في هذا المقال، نعيد قراءة أسطورة أوديب ليس بوصفها حكاية قتل ومحرمات، بل كنصّ فلسفي وجودي، يكشف هشاشة الإنسان أمام الحقيقة، وعظمة الإنسان في مواجهتها.
من هو أوديب؟ النبوءة التي سُبقت باللعنة
في الأساطير اليونانية، لا تبدأ المأساة من الفعل، بل من النبوءة. وفي أسطورة أوديب، لم يكن القدر مجرد حدث مستقبلي، بل قيداً سبق ولادته، كُتب عليه قبل أن يتنفس، وقبل أن يُنسب لأب أو أم. فقد تلقى الملك لايوس والملكة جوكاستا في طيبة نبوءة مفزعة من كهنة معبد دلفي:
"ابنكما سيقتل أباه، ويتزوج أمه."
كانت النبوءة واضحة كالسيف، صارخة كالصدى، لكن وقعها على الأبوين لم يُنتج إدراكًا، بل رعبًا دفعهما إلى الخيانة الأولى للأمومة والأبوة. حين وُلد أوديب، لم يحتضنوه، بل قيدوا قدميه، وطلبوا من راعٍ أن يتخلص منه في الجبال. لكنها أسطورة، وكل أسطورة تعيش على المفارقة: لم يمت الطفل. بل نُقِل إلى مملكة أخرى، كورينثه، حيث تبنّاه الملك بوليبوس والملكة ميروبي وربّياه كابنٍ شرعي لا يعرف عن أصله شيئًا.
وهنا تبدأ مأساة الجهل، لا في النبوءة، بل في الصمت عنها. يكبر أوديب ويظن نفسه ابنًا شرعيًا لأسرة محبة. يعيش حياة نبيلة، ويُبجل كشاب حكيم وقوي. لكن الشكّ تسلل إلى قلبه، فتوجّه إلى معبد دلفي يسأل:
من أنا؟
ليأتيه الجواب المدويّ:
"ستقتل أباك، وتتزوج أمك."
أُصيب أوديب بالهلع. لم يفكر أن يشك في نسبه، بل ظن أن الملك والملكة اللذين ربّياه هما والديه. ففرّ منهم، فرارًا من القدر… لكنه فرّ إليه.
في هذه المرحلة من الأسطورة، يُصبح أوديب رمز الإنسان الباحث عن الحقيقة، لكن المحاصر بتضليل البيئة والقدر معًا. إنه لا يخطئ عن عمد، بل يسير في ظلمة الجهل، محمولًا على رغبة أخلاقية نبيلة: أن لا يكون قاتلًا، أن لا يفسد الوجود. لكنه، ومن حيث لا يدري، كان يسير إلى قلب النبوءة، خطوة بعد خطوة، وكل قرار أخلاقي اتخذه، قرّبه من السقوط.
المفارقة القاسية هنا أن أوديب لم يكن متمردًا، ولا شريرًا، بل كان ضحية الحجب. ضحية من أخفوا الحقيقة باسم الحب، ومن حاولوا كسر النبوءة دون وعي أنها لا تُكسر بالخوف، بل بالمواجهة.
وهكذا، لم تبدأ مأساته بقتله لأحد، بل بأن وُلد في زمنٍ لم يُعطه فرصة أن يعرف نفسه.
القتل والعرش
حين غادر أوديب كورينثه هاربًا من نبوءةٍ لم يفهمها، لم يكن يحمل سلاحًا، بل قلقًا أخلاقيًا نقيًا. كان يخشى أن يتحوّل إلى مجرم، بينما هو يسعى لأن يكون نقيًّا، طاهر الضمير. لكن كما في كل مأساة عظيمة، الرغبة في الخير لا تكفي ما لم تتّكئ على الحقيقة.
على طريق فرعيّ، ضيق ومزدحم، التقى أوديب بعربة يقودها رجل عجوز ومرافقوه. طلب منه الرجل أن يفسح الطريق، لكن أوديب، المنفي المذعور، ردّ بحدة. اشتعل النزاع، وسقط الدم. لم يكن يعلم أن الرجل العجوز هو الملك لايوس… والده الحقيقي.
وبذلك، تحقّق الجزء الأول من النبوءة: قتل الأب.
لكن أوديب لا يعلم، بل يرى نفسه مدافعًا عن كرامته. يتابع رحلته حتى يصل إلى طيبة، المدينة التي تحكمها لعنة أبو الهول – كائن أسطوري نصفه امرأة ونصفه أسد، يطرح على الناس لغزًا قاتلًا:
“ما هو الكائن الذي يمشي في الصباح على أربع، وفي الظهر على اثنتين، وفي المساء على ثلاث؟”
لا أحد عرف الجواب، إلى أن جاء أوديب، وأجاب بهدوء:
“الإنسان.”
فانهار أبو الهول، وانكشفت طيبة، واحتفلت المدينة بالبطل الذي أنقذها من رعب طويل.
توفي ملكها مؤخرًا (قتيلًا دون معرفة هوية القاتل)، وكانت الملكة الأرملة جوكاستا بحاجة إلى حامٍ. فكرّمه الشعب، وتزوّج الملكة، غير مدرك أنها أمه.
وبهذا، اكتملت النبوءة، قطعة قطعة… دون أن يدرك أحدٌ ذلك.
في هذه اللحظة من الأسطورة، يقف أوديب على قمة المجد الظاهري، بينما قدماه غارقتان في وحل القدر. ملك محبوب، زوج سعيد، أب لأبناء… لكنه في الحقيقة قاتل أبيه، وزوج أمه، وأبٌ لإخوته.
تكمن المأساة هنا في الفجوة بين ما نظن أننا نفعله، وما نفعل حقًا. فكل خطوة قادها المنطق والنية الحسنة، قادته نحو التهلكة. لم يكن شريرًا، لم يكن أنانيًا، بل كان مغيّبًا عن الحقيقة، وفي هذا الغياب تكمن أعمق صور المأساة الإنسانية.
لذلك، فإن أوديب لا يُدان لأنه أخطأ، بل يُحزننا لأنه لم يعرف.
ولعل هذه هي أصعب أنواع الذنوب: أن ترتكبها باسم البراءة، أن تضع التاج على رأسك فيما الكارثة تنام تحت عرشك.
انكشاف الحقيقة
مرت سنوات، وأوديب في طيبة ملكٌ محبوب، حاكم عادل، زوج مخلص، وأبٌ يفتخر بأبنائه. بدا وكأن النبوءة قد خُدعت، وأن الماضي قد دُفن… إلى أن ظهرت الكارثة: وباءٌ يجتاح المدينة، مرضٌ غامضٌ يعصف بالأجساد والحقول، كأن الأرض نفسها تصرخ أن شيئًا ما لم يُكشف بعد.
ذهب أوديب إلى كهنة دلفي يسأل: ما سبب هذا الغضب الإلهي؟
وجاءه الجواب:
"قاتل الملك لايوس يعيش بينكم، وهو من جلب هذا الطاعون. لا شفاء حتى يُكتشف."
وهكذا، بدأ أوديب رحلةً جديدة، هذه المرة ليس في الجغرافيا، بل في طبقات الحقيقة. ملكٌ يسعى لتحقيق العدالة… ليكتشف في النهاية أن العدالة هي سكين موجه نحوه.
بدأ التحقيق، وسأل شهودًا، واستدعى كهنة، وواجه زوجته بأسئلة، وكل جواب كان يقرّبه أكثر من الهاوية.
ظهر العرّاف تيريسياس، الأعمى الذي يرى ما لا يُرى، وقال له بوضوح:
“أنت الملطّخ، أنت قاتل الملك، وأنت من يعيش في الحرام.”
لكن أوديب، في قمة إنكاره، غضب، اتهمه بالتحالف، بالافتراء، وكأنه يدافع عن صورته لا عن نفسه.
ثم جاءت الشهادات متتالية… الخادمة التي كانت شاهدة على مقتل لايوس، والراعي الذي سلّم الطفل الرضيع قبل أعوام، وزوجته جوكاستا التي بدأت تشعر أن خيوط المصادفة تلتفّ حول رقبتها. وفي لحظة مرعبة، انكشفت الحقيقة:
أوديب هو الابن المفقود.
هو من قتل أباه في الطريق.
هو من تزوّج أمه دون أن يعلم.
سقط العالم فجأة. جوكاستا لم تحتمل، فدخلت غرفتها، وشنقت نفسها.
أما أوديب… فلم يختر الموت، بل اختار البقاء في قلب المأساة.
دخل غرفة زوجته، وأخذ دبابيس زينتها، وفقأ عينيه بنفسه.
لم يكن ذلك فعل عقاب، بل فعل إدراك أخير:
“لقد رأيت ولم أرَ.
سمعت ولم أفهم.
فليكن العمى عقابي، ولتكن العتمة هي ما أستحق.”
هنا، يتجلّى أعمق تحولٍ رمزي في الأسطورة:
الرؤية لا تكون بالعين، بل بالوعي.
والعمى لا يعني الظلام، بل الانعتاق من وهم المعرفة.
في لحظة فقء العينين، يصبح أوديب أوضح مما كان يومًا. لقد اختار أن لا يهرب، أن لا يُنكر، بل أن يحمل ذنبه ويمشي به، لا كملك، بل كإنسان كامل الإدراك.
الإدراك بعد فوات الأوان
في المآسي العظيمة، لا تكون الكارثة في الحدث، بل في التوقيت. أن تعرف الحقيقة، لكن بعد فوات الأوان. أن ترى كل شيء، لكن حين لا يعود للعين دور. أن تستوعب… بعدما دفعت الثمن.
هنا تمامًا يقف أوديب: رمز الإدراك المؤلم، والوعي الذي يأتي متأخرًا، لكنه يغيّر كل شيء. لم يكن أوديب شريرًا، لم يتعمّد القتل ولا الفساد، لكنه لم يعرف من هو. لقد اتخذ قراراته من موقع الجهل، وظن أنه يهرب من القدر، بينما كان يسير في قلبه.
رمزية أوديب لا تكمن فقط في ما فعله، بل في تحوله من ملك إلى سائل، من حاكم إلى أعمى، من متوهّم بالسيطرة إلى منكسِر أمام الحقيقة. فقأ عينيه لأن الرؤية كانت خادعة، لأنها لم توصله إلى الحقيقة، بل زينت له الطريق حتى نهايته.
العمى، هنا، ليس نهاية، بل ولادة ثانية. أوديب الذي يخرج من القصر أعمى، يقود نفسه بعصا، ليس هو أوديب الملك. إنه أوديب الإنسان، المحمّل بالذنب، المعرّى من الألقاب، الذي لم يعد يمتلك شيئًا سوى الوعي.
في كل خطوة يخطوها بعد العمى، نسمع سؤالاً يتردد في الأسطورة:
هل كنتُ أنا من فعل هذا، أم أن القدر هو من ساقني إليه؟
هل كنت حُرًا، أم مخدوعًا بنبوءة تنكرت على شكل مصادفات؟
وهنا يدخل أوديب إلى قلب الفلسفة اليونانية نفسها، إلى جدل الحتمية والاختيار. فالأسطورة لا تُدين الإنسان لأنه يخطئ، بل تضعه أمام حقيقة مُفزعة:
أحيانًا نرتكب أعظم الأفعال بقلوب بريئة… لكننا لا ننجو من آثارها.
وهذا ما يجعل أوديب رمزًا خالدًا:
-
ليس لأنه سقط، بل لأنه تحمّل سقوطه.
-
ليس لأنه أخطأ، بل لأنه واجه نفسه.
-
ليس لأنه أعمى، بل لأنه أبصر متأخرًا… فامتلأ بصيرة.
أوديب في أعين الفلاسفة – ولماذا تبقى الأسطورة حية؟
ليست كل الأساطير تُولد لتُنسى، وبعضها لا يموت لأنها تكشف شيئًا عنا نحن، لا عن الآلهة أو الأبطال. وأوديب، على وجه الخصوص، ظلّ حيًا لا لأن نهايته مأساوية، بل لأنه يُجسّد الصراع الداخلي بين الحرية والمصير، بين اللاوعي والإدراك، بين النية والنتيجة.
حين قرأ سوفوكليس هذه الأسطورة وكتبها كمسرحية، لم يرد أن يُخبرنا فقط بحكاية رجل ارتكب جريمة دون أن يعلم، بل أراد أن يقول: في داخل كل إنسان أوديب نائم، لا يعرف من هو فعلاً، ولا إلى أين يقوده اختياره.
وحين جاء فرويد بعد آلاف السنين، أعاد قراءة الأسطورة لا كأدب، بل كمرآة نفسية، صاغ من خلالها أشهر مفاهيمه:
"عقدة أوديب" – الرغبة اللاواعية في التفوق على الأب والارتباط العاطفي بالأم،
وجعل من الحكاية المفتاح الذي يفسّر النشأة النفسية للبشر، لا باعتبارها قصة خرافية، بل باعتبارها تجسيدًا مبكرًا لصراع الرغبة والسلطة والممنوع.
أما الفلاسفة الوجوديون، فقد وجدوا في أوديب مثالاً للكائن الباحث عن الحقيقة رغم الثمن. فهو لا يهرب حين تقترب الكارثة، بل يسعى إليها بقدميه، بل بإلحاحه، بل يُجبر نفسه على أن يعرف، حتى حين تكون المعرفة قاتلة.
ومن هنا، تحوّل أوديب إلى رمز للإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم يملؤه الضجيج، الصور، والسلطة، ويبحث – بمرارة – عن الحقيقة، عن من هو، عن ماذا فعل دون أن يعرف.
في زمن التكنولوجيا والوعي الزائف، نعود إلى أوديب لا لنخاف مصيره، بل لنفهم أنفسنا من خلاله:
-
كم مرة حكمنا على الآخرين بلا معرفة؟
-
كم مرة ظننا أننا نعرف، ثم اكتشفنا أننا كنا في الظلام؟
-
كم مرة كانت النية صافية، لكن الطريق معوج؟
إن أوديب لا يبقى حيًا لأنه "أخطأ"، بل لأنه أصرّ أن يعرف من يكون، ولو كلفه ذلك كل شيء.
وتلك، بحد ذاتها، شجاعة لا يمتلكها كثيرون.
أوديب لم يكن شريرًا، ولم يكن ضحية فقط. كان مرآةً عكست ما لا نجرؤ غالبًا على رؤيته: أننا لا نعرف أنفسنا تمامًا، وأن أعظم خطايانا قد نرتكبها تحت راية النية الطيبة.
لكنه لم يهرب حين عرف، لم ينكر، لم يبرّر… بل تحمّل وِزر الحقيقة حتى آخر الطريق.
في كل مرة نفتح فيها هذه الأسطورة، نُدرك أن الكارثة ليست في ارتكاب الفعل، بل في جهل الذات، وفي الصمت عن الأسئلة الصعبة، وفي الخوف من معرفة من نحن.
ولهذا يبقى أوديب حيًا… لأنه بطل المعرفة المؤلمة، لا القوة الخارقة.